الإحتيـاط الــواجب لطالبي الخدمة الروحانية
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على نبيه الكريم مولانا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى صحابته الميامين الذين صبروا معه في البأساء والضراء وحين البأس ونالوا بذلك رضى الله الكريم وكانوا من أهل التقوى واليقين رضي الله عنهم أجمعين وألحقنا بهم غير مغيرين ولا مبدلين آمين
أما بعد فإني قد كنت وعدت بطرح يتمثل في بيان الاحتياط الواجب لطالبي الخدمة الروحانية ، ورأيت من الواجب علي الوفاء بذلك ، خاصة وأنه يتعلق بموضوع ساءت حوله الأفهام ، وضلت على حوضه سناء الأفكار باختلاط الأوهام ، واستراث عنه حق الأخبار، فلم يجد الولهان بالشأن آثار ، فأخذه الإرتماض وحل به الإكدار ، حتى على الحال ازداد الإصرار ، وفقد الدواء وسام البدن سوء الأقدار ، حتى استيأس الراشد وأراد تولية الأظهار ، نبا له من الإدبار نور الإقدام ، ولاح له أن قف وراءك أمر بيان ، وعطاء ونوال وإحسان ، هي كشف لحقيقة ما سطرها بنان ، قد يضن بها من يغلب سخاءه الإقتار ، فخذها أيها الطالب وكلك آذان ، فهي لك من صادق إينار ما دام الصدق إينار .
أيها الإخوة الأعزاء إننا دائما نخصكم بأسرار قدر لها أن تبدو في هذا الزمان ، نريد بها رحمة الله أولا ، وثانيا أن نصحح هذا المسار ونقوم ما اعوج حوله من الأفهام ، وذلك لأن الضلال فيه ليس كالضلال في غيره ، فهو ميدان خطير تتلقف فيه الشياطين التائهين تلقفا ، وتتربص بالأغرار تربص الوحش بالفريسة ، فلا يكاد يسلم فيه الغبي من فساد الدين ، ولا ينجو فيه النقي الزال من الأدران ، فكان التوجيه فيه واجب والبيان له حق ، فالله وحده عليه التكلان ، فأقول :
إن مما ينبغي التنبيه على خطئه ما يعتقده طلبة وممارسوا الروحانيات من كون الجن قادرا على نفع الروحاني وإفادته بحقائق وأسرار تفيده في المعرفة أو توصله إلى الولاية الإلهية ، أو كون الجن له قدرات خارقة في علاج الأدواء والأمراض المستعصية ، أو الرقي بالطالب الروحاني إلى منزلة أهل التصريف والتأثير ، وغير ذلك من المعتقدات الموهومة في الجن ، ولا يعلمون أن الجن جنس يضم أصنافا كثيرة وطرائق قددا منهم كما في الإنس من ليس له أدنى معرفة روحانية و لا له دراية بالعلم أصلا كما منهم العوام و الأميون و الجهال الذين إن لم يضروا لم ينفعوا و إن لم يكفوا عن الفساد لم يصلحوا و منهم كثرة كاثرة من أهل الحمق و السفه من سخرتهم الشياطين ضد أهل الحق كل همهم في الأذى و الإيذاء و الفساد و الإفساد ومنهم من لا هم له ، همج رعاع و غوغاء مفلسون ، فيظن هذا الغمر من ممارسي العلم الروحاني أنه إذا اتصل بالجن فإنه سيسعد و يحقق إنجازات في أقل مدد ، و يفتح له المغلق و يعدو في ميدان الخوارق فلا يسبق ، و لا يدري أن اتصالا عن غير علم بعالم الجن قد يكلفه دينه ، أو ينال الأذى بدنه ، أو يغيير عقله و يعمي بصيرته ، أو يحمل من ذلك العالم الشؤم فلا يفارقه ، فلا يقال في حقه أفلح و لا أنجح ، نسأل الله السلامة و العافية . هذا و إن من الروحانيين المبتدئين الأغرار من يعقد النية على خوض تلك التجربة دون أن يهمه شيء و لا يلوي على شيء ، و لا يعلم أن عالمه أنجى له و أسلم ، ثم تراه يشبع تلك الثقافة ناشدا تحقق أمانيه و بلوغ بغيته مستخفا بالعلم و أهله ، تاركا له وراء ظهره لا يعلم و لا يريد أن يعلم يلهث كالكلب وراء سراب لا قيمة له ، مستبدلا الذي هو أدنى بالذي هو خير ، حيث اتخد من دون الله أولياء { بئس للظالمين بدلا } فعمره ضائع و جرمه ضالع ، فأولى له ثم أولى له
هذا و إن النجاح في علم الحكمة الروحانية يستلزم أشياء بالضرورة ينبغي أن يعلمها الطالب الروحاني بالإضطرار ، كيما يصل إلى المعين الصافي ليرتوي من العلم الصحيح ، والحكمة الصحيحة ، ليفوز بها في هذه الحياة ، و ينجو بتركه للمخالفة بعد الممات و إن مما يجب اعتقاده و السير عليه و التزامه في طريق العلم الروحاني ، كون العلم الصحيح مجردا عن عمل الجن وأن كل البركة في الإكتفاء بالتأثير والتصريف بالعلم الروحاني الخالي من أيدي وتدخل الجن ، فالعلم أقوى وصاحبه أرفع شأنا { قال الذي عنده علم من الكتاب أنا ءاتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك } ، و حسبنا بالله و لا نرجوا نفعا ولا نخاف ضرا إلا منه ، { أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه } ، فأسراره يمنحها من يشاء من عباده و دون واسطة الجن ، و نفحاته الملكوتية و عطاياه المادية و المعنوية لا مانع لها ولا يوصلها إلا هو ولاينفع ذا الجد منه سبحانه وحده الجد ، فإياك أن تكون من المغرورين بعالم الجن ، فتبوء بالبيس { أفتتخذونه و ذريته أولياء من دوني و هم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ما أشهدتهم خلق السموات و الأرض و لا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا } .
وإنه لا يفوتنا أن ننصف ذلك العالم ففيهم من الأخيار كما في عالم الإنس ، وفيهم من الروحانيين كما فينا روحانيون ولا شك أن الطالب الصادق الملتزم بشروط هذا العلم يصل إلى مرتبة يتصل فيها بأولئك ويفيد و يستفيد ويحصل خدمات من أولئك القوم ويسخرهم في قضاء حوائجه النزيهة و يعينونه في أعماله الروحانية تبجيلا لقدره و إعترافا بحقه في علم الحكمة و بسبقه في الوصول ، فيزداد شرفا إلى شرفه و يتقرب منه الخلق ويخدمونه و يصير إماما و حكيما ربانيا لا يعدوا العلم الروحاني إلى ممارسة السحر و مخاطبة الجن و الشياطين كما يريد الغوي ، بل يذود عن حياض الحكمة يوجه الضال و يحمي الحمى غير مالّ.
فيا إخواننا الطلاب اعرفوا قدر ما وصلتم إليه من عين الحقيقة التي كشفنا عنها الحجاب كي يستفيد الصادق الوفي فيتبع أهل الصدق و الوفاء ، وينقل إلى إخوانه هذه النصائح القيمة ليتضح لهم السبيل الذي سلكه الفائزون حتى نالوا ما أمّلوا و حكَّموا مارغبوا فكانوا من السابقين ، فهذا أخصر طريق وهو حقا الطريق الذي لا يؤدي إلى العلم الحقيقي سواه ، ولو ظل اللاهث خلف الجن ماشاء له أن يظل و عمّر أكثر ما عمّر مخلوق لما حصل عشر معشار العلم و لا عرف النزر اليسير مما عرفه القوم ، فخذوا هذه الكلمات وعوا ما فيها من العظات ، و لينتهي من في نفسه عقد المخالفة وليرعوي ويترك المغالطة فلا ثم شيء إلا الضياع و أحلام اليقظة التي تمني و لا تتحقق حتى إذا كشف الغطاء ، ناح على نفسه المصر على طريق الخطأ وقد أٌنذر أكثر من مرة فما ينفعه النواح بعد أن سيئ وجهه { فلما رأوه سيئت وجوه الذين كفروا و قيل هذا الذي كنتم به تدعون } .
ولا نظن بإخواننا إلا حسنا ، و ما إخالهم إلا متعطشين إلى النصح ، فكم لهم وهم يبحثون على من يدلهم فهاهم وجدوا التوجيه فحق لهم كل خير ، ولا يزال في أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير.
و الله نسأل أن يمتعنا بأبصارنا و أسماعنا و قواتنا أبدا ما أحيانا و نسأله أن يرينا طريق الحق و يبصرنا فيه و يلهمنا الرشد و الصواب و يجعلنا ممن شاء أن يهديهم { و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } ، {سبحان ربك رب العزة عما يصفون و سلام على المرسلين و الحمد لله رب العالمين }.
