بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الأخوة المؤمنون: من ذكرى مولد النبي عليه الصلاة والسلام كان موضوع الدرس الماضي الإتباع، وبينت لكم في الدرس الماضي أن علاقتنا في هذه الذكرى ينبغي أن تكون الإتباع، أما أن نمدحه فبذكر محمد تحيا القلوب، وأما أن نتكفي بمديحه لا يكفي أن نكتفي بالمديح، أما أن نتبرك بآثاره شيء طيب، لكن لا يجدي أن نكتفي بالتبرك بآثاره.
واليوم ننتقل إلى صفة من صفات النبي عليه الصلاة والسلام، إنها الأدب، حتى إن أصحابه الكرام عجبوا من هذا الأدب الجم الذي يتحلى به النبي عليه الصلاة والسلام، (مما ورد في الأثر) فلما قيل له: ما هذا الأدب يا رسول الله ؟ قال:
((أدبني ربي فأحسن تأديبي.))
ويكاد الأدب يكون عنواناً للإيمان، علامة المؤمن أنه أديب، أديب مع الله، والأدب مع الله عز وجل: أن تصون معاملتك له من أن تشوبها شائبة، لك معاملة مع الله عز وجل، ومن هذه المعاملة أن تعبده، فإن لم يشب عبادتك شائبة فهذا من تمام الأدب مع الله، وأن تصون قلبك عما سوى الله.
﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾
(سورة الأحزاب)
القلب يمتلئ بشيء واحد، فإذا امتلأ بالدنيا لم يبق مكان لمحبة الله، وإذا امتلأ حباً بالله أخرجت الدنيا من قلب المؤمن، لذلك أن يصون قلبه عن أن يلتفت إلى غير الله، وهذا من تمام الأدب مع الله، والأدب الثالث
أن يصون إرادته أن لا يريد إلا الله، أن لا يريد إلا رضوان الله (إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي )، يجب أن نطهر عبادتنا من أن تشوبها شائبة، وهذا من الأدب مع الله، ويجب أن نطهر قلوبنا من أن يكون فيها غير الله، وهذا من تمام الأدب مع الله، ويجب أن نطهر إرادتنا من التوجه لغير الله.
أيها الأخوة: الأدب مع الله عز وجل في تعريفه الدقيق حسن الصحبة معه، عن طريق إيقاع الحركات الظاهرة والباطنة على مقتضى التعظيم والإجلال والحياء، صدقوني أيها الأخوة أنه ما من صفة تشد إليها كأدب المؤمن، والله في وقفته، في جلوسه، في نومه، في طعامه في شرابه، في جلوسه في بيته، في ثيابه، لأنه اصطبغ بكمال الله، فصار أديباً مع الخالق ومع الخلق.
أيها الأخوة: يوجد حقيقة دقيقة، هو أنك قابل لأن تصطبغ بالكمال الإلهي، عندك استعداد، عندك أهلية، كيف أن هذه الإسفنجة قابلة لأن تحتمل الماء، أما ضع قطعة حديد في الماء ثم أخرجها الحديد لا يحتمل ماءاً، أما الإسفنج يحتمل الماء، نقول قابلية الإسفنج لحمل الماء بالغة جداً، الآن حينما قال الله عز وجل:
﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)﴾
(سورة الشمس)
أهَّلها لتصطبغ بكمال الله، أهَّلها لكي تكون في أحط درجة:
﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)﴾
أي جعلها مؤهلة كي تتقي وكي تسمو وكي ترقى، وجعلها مؤهلة كي تفجر، القرآن الكريم يحدثنا عن أدب رسول الله، ما من مخلوق تأدب مع الله كرسول الله، ما من فاتح مدينة إلا يفتحها متغطرساً، متكبراً، يتكلم كلاماً لا يحتمل، إلا النبي عليه الصلاة والسلام حينما فتح مكة دخلها مطأطئ الرأس تواضعاً لله وأدباً مع خلقه، فلما قال لأهل قريش:
(( قال: (ماذا تظنون يا معشر قريش) قالوا: خيرا، أخ كريم، ابن أخ كريم وقد قدرت؛ قال: وأنا أقول كما قال أخي يوسف "لا تثريب عليكم اليوم"))
(الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي )
الله عز وجل يصف أدب النبي عليه الصلاة والسلام فيقول:
﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)﴾
(سورة النجم)
حينما بلغ سدرة المنتهى وكان في حضرة الله عز وجل:
﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ﴾
لا التفت يميناً ولا شمالاً، ولا تجاوز
﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)﴾
كلما كان الذي أنت في حضرته عظيم تتأدب عيناك، أحياناً يدخل الإنسان إلى مقام إنسان كبير عينه على السقف وعلى الحيطان، واللوحات والأرض، هذا السلوك غير لائق، أما إن كنت أنت في حضرة إنسان ذي شأن كبير فبصرك ينظر إلى شيء محدود
﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)﴾
مع أنه رأى من آيات ربه الكبرى
﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)﴾
فكان للنبي عليه الصلاة والسلام بصر وبصيرة، بصيرته وافقت بصره، كانت بصيرته تعظم الله عز وجل، إذ ما من مخلوق على الإطلاق وصل إلى سدرة المنتهى.
﴿عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)﴾
نحن نقول كلام، تقليداً أو استنباطا، ولكن الذي حصَّل الدنيا، ونال من متع الدنيا ما نال ما نال إلا أثراً بسيطاً، أما الذي وصل إلى الله!!
أحيناً إنسان بسذاجة يقول لك: الصحابة لم يشاهدوا هذا العصر المركبات الفارهة، والفنادق الفخمة، والطائرات، والحدائق الجميلة، والبلاد الجميلة جداً، ويوجد ألوان من الطعام، أنا جوابي على هذا الكلام ولكنهم وصلوا إلى الله، إذاً كنت جمالياً أهل الأرض الأغنياء وصلوا إلى متع رخيصة، لكن أهل الله وصلوا إلى الجمال المطلق.
لا أدري إن وجد من إخواننا الكرام في ساعة قرب مع الله، في ساعة تألق، في ساعة إقبال، في ساعة خشوع، في ساعة بكاء، هل يشعر أن في الأرض من هو أسعد منه ؟ هل هناك من شعور يفوق أن تشعر أن الله يحبك ؟ أو أنك تتحرك برضوان الله ؟ أو أنك متأدب مع الله ؟ أو أنك تنفع عباد الله ؟ إخواننا هذا الشعور وحده مسعد، ولو لم يوجد آخرة، أي أنت مع العظيم، أنت مع الكريم، أنت مع الغني، أنت عبد الغني، أنت عبد الرزاق، فلذلك ما من مخلوق على وجه الأرض كان أكثر أدباً مع الله من رسول الله، ما رئي مادَّاً رجليه قط !! ولا بين أصحابه وهم على ما هم عليه من الأدب.
نقف وقفة لطيفة عند قول الله له:
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) ﴾
(سورة القلم)
إخواننا الكرام: ألم يكن النبي خطيباً من الطراز الأول ؟ فعلاً، ما مدح بأنه خطيب
ألم يكن النبي قائداً محنكاً ؟ ما مدح النبي بقيادته، ألم يكن النبي سياسياً بارعاً ؟ كان سياسياً بارعاً، ألم يكن النبي فصيح اللسان طليق البيان ؟ كان كذلك، أي أن الأنبياء لأنهم مكلفون بنقل رسالة السماء إلى الأرض أوتوا إمكانات كبيرة جداً، أوتوا إمكانات عالية جداً، بل إن أولى صفات النبوة الفطانة، أي أنت لو قرأت كلام النبي ووزنته بميزان الذكاء لوجدت الأنبياء في أعلى درجة من ميزان الذكاء البشري، أنت أحياناً تلتقي بإنسان ذكي جداً أي تعليقاته دقيقة، مواقفه عميقة، نظراته ثاقبة، كلامه محكم، تصرفه حكيم، هذه صفات الأذكياء، أيعقل أن يكون النبي الكريم الذي يمثل هذا الدين العظيم بمستوى أقل من مستوى من حوله؟
مصارع من كبار مصارعي الجاهلية قال: لو أن النبي صرعني لآمنت به. صرعه ثلاث مرات، كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
وأجمل منك لم تر قط عينٌ وأكمل منك لم تلد النساءُ
خلقت مبرءاً من كل عيبٍ كأنك قد خلقت كما تشاءُ
***
إذا تناول الطعام أنا أذكر لكم هذا المثل الدقيق مع أني ذكرته لكم سابقاً، طبق تمر، أخذت تمرة وأكلتها، فلما انتهيت من أكلها أمسكت النواة ووضعتها على الطاولة مثلاً، أنا حينما أمسكت النواة إصبعاي أخذتا من لعابي، ثم أخـذت تمرة ثانية، وجدتها قاسية فتركتها إلى ثالثة ما الذي حدث ؟ انتقل لعابي إلى تمرة لم آكلها، ماذا كان يفعل النبي ؟ كان إذا أكل التمر وضع النواة هنا ويعمل هكذا (مسح) من شدة أناقته، ما تنفس في إناء قط، كان يقول:
((عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ النَّفْخِ فِي الشُّرْبِ فَقَالَ رَجُلٌ الْقَذَاةُ أَرَاهَا فِي الْإِنَاءِ قَالَ أَهْرِقْهَا قَالَ فَإِنِّي لَا أَرْوَى مِنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ قَالَ فَأَبِنِ الْقَدَحَ إِذَنْ عَنْ فِيكَ ))
(سنن الترمذي)
ما رؤي ماداً رجليه قط، صفات الأنبياء رائعة جداً، فحينما مدحه الله عز وجل لم يمدحه بأنه خطيب، ولا بأنه قائد، ولا بأنه سياسي محنك، ولا بأنه أب كامل، ولا بأنه زوج، قال له:
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) ﴾
لأن النبي أعـطاه بالإمكانات هذه وسائل النبوة، أما الذي تميز به النبي ذاتياً وتفوق ذاتياً وهـو من كـسبه ليس غير هي أخلاقه، كما أنك لا تستطيع أن تقيم حفلاً تكريمياً لابنك إذا اشتريت له سيارة، فلا معنى لها لأن السيارة منك، أما إذا نال الدرجة الأولى في الامتحانات تقيم له حفل تكريمي، لأن الدرجة الأولى من كسبه واجتهاده، أما أن تعطيه مركبة فهذا ليس من اجتهاده، هذا من كرمك أنت، والله أيها الأخوة حينما أقرأ نصاً في القرآن الكريم على لسان السيد المسيح أذوب إعجاباً بأدب هذا النبي الكريم، بعض العلماء علق على هذا النص:
﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾
(سورة المائدة)
وازن بين قوله لم أقله وبين
﴿إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾
أن تنفي شيئاً أمام عليم فهذا فيه تجاهل لعلمه.
﴿إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)﴾
الآن يا ربي أنا عبد مثلهم، أمرهم إليك، يا رب عذبهم يستأهلون أن تعذبهم.
﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)﴾
أي يا ربِ لا يوجد قوة في الأرض إلا وقد تُسأل لماذا عفوت عنهم !! قد يكون أعلى منصب طوى ضريبة عن إنسان قد يسأل بعد حين لماذا أُعْفيت من هذه الضريبة ؟
فما من إنسان وإلا وفوقه إنسان أقوى منه، لكن الله سبحانه وتعالى إذا عفا عنه، ليس في الكون جهة تسأله.
﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)﴾
هذا مثل من أدب السيد المسيح مع الله عز وجل يوم القيامة.
إخواننا الكرام: إذا عاشرت المؤمنين تقتبس من أدبهم وحكمتهم وهدوئهم وحلمهم وصبرهم ونفسهم الطويل هذا كله كمال.
قالوا: كاد الحليم أن يكون نبياً، قيل: الحلم سيد الأخلاق.
(( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم علموا ولا تعنفوا فإن المعلم خير من المعنف.))
(ورد في الأثر)
حدثني أخ له أب تاجر، والأب له أولاد كثر، لكن هذا الابن كان باراً به إلى درجة تفوق حد الخيال، كان ينام في غرفته فإذا تحرك الأب نهض واقفاً، وكان الأب عمره ستة وتسعين سنة وكان بتمام قدراته، يقول ابنه: سبب حبي الشديد لوالدي وهذا الوفاء له القصة منذ الأربعينات: الأب عنده سيارة الابن أخذها من دون علم أبيه وأصيبت بحادث، لكن من شدة خوفه اختفى، الأب لم يفعل شيء، الأب يكون رحيم ابنه انهار لم يفعل شيء، بعدما لمحه بعد يومين قال: السيارة بعتها ولا تحمل هم ! لا ينسى لأبيه هذا الموقف ! توقع منه أن يحطمه أو يطرده شيء وقع.
أذكر قصة وكلما أذكرها أرتجف: طفل صغير أبوه اشترى طقم كنبات درجة أولى بيده شفرة عمل خط ففتح القماش، فوجدها لعبة مسلية، قام بعدم اثنا عشر كنبة ! جاء الأب ووجد الحالة فغضب، جاء بيدي ابنه ووضعهم على طاولة وجاء بمسطرة وضربه عليهم بشدة حتى ازرقت يداه، وأخذ إلى الطبيب غرغرينا لابد من قطع اليدين من الرسغين، فلما توسل الابن إلى أبيه ألا تقطع يداه ما كان من الأب إلا أن أطلق على ابنه النار وانتحر، لم يتحمل رجاء ابنه، هذه قصة مؤلمة جداً لا يحتملها الإنسان، لكن ابنك أغلى من أي شيء في البيت، وجِّهه ولكن بضبط أعصابك، كسر آنية أصاب شيء بعطب... ابنك أغلى من أي شيء، لو أصيب ابنك بشيء تنسى البيت كله والأساس.
فكاد الحليم أن يكون نبياً، فيقول: أنا لا أنسى لأبي هذا الموقف، كيف من شدة خوفي كدت أنهار، الأب شعر بهذا الوضع قال: لقد بعت السيارة لا تحزن لا مشكلة، هذه حكمة من الأب، شيء وقع، أنا أنصح وأوجه وأدع المفتاح معي، لكن بالنهاية إذا وقع شيء يجب أن أكون حكيم، فكان الحليم أن يكون نبياً، اللهم صلي عليه.
والله أيها الأخوة: أحدنا (والله يعيننا) لو استفزك إنسان تتمنى أن تفرمه فرم، في الطائف بالغوا في الإساءة إليه كذبوه وسخروا منه وأغروا صبيانهم، فلما جاءه ملك الجبال ليقول له: أمرني ربي أن أكون طوع إرادتك لو شئت لأطبقت عليهم الجبلين قال: اللهم اهدي قومي إنهم لا يعلمون، لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحده.
أين الأمل ؟ بالجيل القادم، أقول لكم الآن الأمل بالجيل دعك من الكبار، الآن الأمل بأجيالنا وأولادنا، أنت تقدم أكبر خدمة لهذه الأمة حينما تعتني بابنك، تقوم بأكبر عمل جهادي حينما تربي ابنك على الصدق والأمانة والعفة والإخلاص والتفوق، الأطفال يعنون المستقبل.
أيها الأخوة: كاد الحليم أن يكون نبياً، والحلم سيد الأخلاق، والحلم من الأخلاق الكبرى، أحياناً في رحمة الرحمة أحد معالم مكارم الأخلاق، الرحمة والحلم.
من آداب الأنبياء:
﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)﴾
(سورة الشعراء)
بعض التفاسير والقرآن كما أقول لكم دائماً ليس ملك أحد، بعض التفاسير يجدون حينما عدل هذا النبي الكريم إبراهيم عن:
﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)﴾
قال:
﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)﴾
﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)﴾
(سورة يوسف)
الآية لها معنى آخر: الإنسان مصمم أن لا يمرض إلا إذا خالف منهج الله، أحياناً يكون المرض ليس سبب شخصي سببه عصر بيئة ملوثة أو ضجيج أو تغير خلق الله عز وجل.
الخضراوات المعالجة وراثياً ثبت الآن أنها ضارة، نحن من ثلاثين سنة كل خضراواتنا معالجة وراثياً، لأن البذرة معالجة بعدة زيجات، فلو لم يعالجوها وراثياً تأتي بذرة الإنتاج الزراعي مشابهة للأم، فالأجانب يبيعوا البذرة مرة واحدة، كي يبيعوك كل سنة بذور يصممون البذرة على أن تعود للأصل القديم، لابد من المعالجة الوراثية حتى تأتي البذرة على خلاف الأصل حتى نشتري كل سنة بذورنا من عندهم، وتقريباً أرباح البذور تأتي بعد أرباح الأسلحة والمبيدات ! البذور أرباحها فلكية، وكل شيء تأكلونه بذور مستوردة !
أرى أن أصل المرض مخالفة لمنهج الله، ألم يقل الله عز وجل:
﴿فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾
(سورة النساء)
فأنت حينما تغير خلق الله وتبتعد عن أصل التصميم الإلهي في مشكلة قال
﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)﴾
المرض لا يعزى إلى أصل الخلق بل لسوء التطبيق.
على كل هذا شاهد من أدب النبي الكريم إبراهيم مع الله عز وجل.
في شاهد آخر: سيدنا الخضر قال: فأردت أن أعيبه ولم يقل فأراد ربك أن أعيبها، أما قال:
﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا﴾
(سورة الكهف)
على كل الموضوع يحتاج إلى وقفة متأنية، في عمل فعله الخضر قال:
﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ﴾
وفي عمل:
﴿فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا﴾
وفي عمل:
﴿فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا﴾
بعضهم قال: الشيء الذي أعلمه أنا وغيري قال: أردت، أما الشيء الذي يعمله الله وحده.
﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾
الغيب من يعلمه ؟ الله وحده، أما إذا في ملك يأخذ كل سفينة غصباً شيء بديهي أن تقول: فأردت أن أعيبها شيء معلوم.
قضية ثانية: كأن الله جل جلاله وقد أطلع الخضر على ذلك قال:
﴿فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81)﴾
من الأدب مع الله عز وجل قول مؤمني الجن:
﴿وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10)﴾
(سورة الجن)
الحقيقة الله عز وجل لا يريد الشر بل الخير.
﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ﴾
(سورة يونس)
الخير مراد من الله، أما الشر غير مراد، تماماً مدرسة أصل إنشائها وتأسيسها تعليم الطلاب، لكن في هذه المدرسة قد يضطر المعلم إلى ضرب طالب، لكن لا يعق لأن تقول: إن هذه المدرسة أسست من أجل ضرب الطلاب غير معقول ! أسست من أجل تعليم الطلاب، يلجأ للضرب في حالات استثنائية، من أجل تربية الأولاد.
سيدنا موسى كان من الممكن أن يقول: ربي أطعمني قال:
﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ﴾
(سورة القصص)
ويوجد معنى للآية دقيق: أن الغنى الحقيقي هو غنى العمل الصالح.
﴿فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)﴾
سيدنا يوسف حينما قال لإخوته:
﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾
(سورة يوسف)
أيهما أشد خطراً ؟ السجن أم الجب ؟ الإنسان بالسجن مضمونة حياته، أما بالجب احتمال موته بالمائة تسعين، لم يذكر الجب لئلا يذكر إخوته بجريمتهم، قال:
﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾
هو بريء وهم اعتدوا عليه قال:
﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾
ساوى نفسه معهم، عندما تساوي نفسك مع خصمك ترتاح، أحدنا مخطئ وانتهى الأمر، والله علمنا كيف نحاور قال:
﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) ﴾
(سورة سبأ)
الحق قد يكون في ملعبنا أو في ملعبكم نحن سواء، لنتحاور:
﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ ﴾
ساوى نفسه مع خصمه، لذلك عندما قال الله عز وجل:
﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾
كأنه برّأهم من جريمتهم وساوى نفسه معهم وما ذكرهم بجريمتهم، هذا من الأدب، لاحظ إنسان له صلة بالله عز وجل كلامه موزون لا يجرح إنسان وفيه أدب ولطفق واحترام للآخرين، أحياناً يجبر قلب إنسان فقير يحترم إنسان ضعيف، أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر الرجل أن يستر عورته وإن كان خالياً لا يراه أحد أدباً مع الله على حسب القرب منه وتعظيمه وإجلاله وشدة الحياء منه.
أيها الأخوة: قال بعضهم: الزم الأدب ظاهراً وباطناً، فما أساء أحد الأدب في الظاهر إلا عوقب ظاهراً، وما أساء أحد الأدب باطناً إلا عوقب باطناً.
أحد العلماء يقول: من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن، عندنا فرائض وسنن وآداب، من تهاون بالآداب عوقب بحرمان السنن، ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض، ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة، كأن هذه الأشياء الثانوية سياج، إذا تهاونت بالأدب تهاونت بالسنن، تهاونت بالسنن تهاونت بالفرائض، تهاونت بالفرائض طمس على القلب.
قال بعض العلماء: الأدب في العمل علامة قبول العمل. والله مرة جلس لجانبي إنسان في طعام فيه لبن بعدما انتهى كل شيء بالصحن جاء بقطعة خبز ومسح بشكل تستطيع وضع الصحن على الشكاكة، أدب مع الله، لم يبقي شيء في الصحن ! رأيت هذا شيء يقدر نعمة الله، فالمؤمن كلما كان أديباً مع الله يبالغ في احترام النعمة.
قال: لا يستقيم لأحد قط الأدب مع الله تعالى إلا بثلاثة أشياء: معرفة أسمائه وصفاته ومعرفته بدينه وشرعه وما يحب وما يكره ونفس مستعدة قابلة لينة متهيئة لقبول الحق علماً وعملاً وحالاً، تعرف أسمائه الحسنى وصفاته الفضلى وأمره ونهيه وتكون تملك نفس مطواعة لقبول أمره وترك نهيه، أن تعرفه وتعرف منهجه وتطوّع نفسك لطاعته هذا منتهى الأدب مع الله.
وقال بعض العلماء: من الأدب مع الله التأدب مع القرآن وتلاوته:
﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) ﴾
(سورة محمد)
ومن الأدب مع الله أن تجيش نفسك إذا ذكرت الله.
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) ﴾
(سورة الأنفال)
ومن الأدب مع الله أن تدعوه.
﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً (77)﴾
(سورة الفرقان )
ومن الأدب مع الله أن تستعين به، كما يدعو النبي الكريم:
((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَتُحِبُّونَ أَنْ تَجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ قُولُوا اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى شُكْرِكَ وَذِكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ))
(مسند الإمام أحمد)
من الأدب مع الله أن تثني عليه:
﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) ﴾
(سورة الأنبياء)
من الأدب مع الله في العبادة أن يقف المؤمن بين يدي ربه في الصلاة مطرقاً خافضاً طرفه إلى الأرض ولا يرفع بصره إلى فوق، إذا نظر إلى فوق بالصلاة والجدران واللوحات هذا ليس أديباً مع الله، بل الأديب مع الله ينظر في السجود.
من مظاهر الأدب مع الله عز وجل المحافظة على الصلوات الخمس.
الآن الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾
(سورة الحجرات)
لمجرد أن النبي قال شيئاً والنبي لا ينطق عن الهوى إذا كان لك رأي آخر تراه أصوب فأنت سيء الأدب مع الله، طبعاً في حياته لا تقدم بين يديه آراء ولا اجتهادات ولا اقتراحات، لكن بعد وفاته لا تقدموا بين يدي سنته اقتراحات، النبي عليه الصلاة والسلام في كلامه ليس مجتهداً، إنما هو مبلغ عن الله عز وجل.
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) ﴾
(سورة النجم)
من الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ترفع صوتك فوق صوته فإن هذا سبب لهبوط العمل، وبعد وفاته ألا يعلو صوت على صوت رسول الله.
أن تأتيك فكرة رائعة النبي تكلم بعكسها... حينما تدلي برأي يخالف سنة النبي يعلو صوتك على صوته ولو كان في قبره، هكذا كان العلماء، ومن الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تجعل دعائه كدعاء غيره.
﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ﴾
(سورة النور)
هذا من الأدب مع رسول الله، تخاطبه كما تخاطب صديقك أو أخاك، هذا ليس من أدب مع رسول الله.
ومن الأدب مع رسول الله إذا كان أصحابه معه على أمر جامع من خطبة أو جهاد أو رباط لم يذهب أحد منهم مذهباً في حاجته حتى يستأذنه.
أخ كريم إمام مسجد غاب أسبوعين ثم صلى بنا إماماً في مسجد آخر عاتبني عتاباً شديداً قال: أنا مريض ثلاثة أسابيع لم أصلي ! لِمَ لَمْ تسأل عني ؟ ماذا أقول له ؟ والله كلام مقنع ! قلت له الحق عليك ! قال: كيف ؟ قلت: ذهبت للعمرة ثلاث مرات ولم تخبرني، السنَّة أن تخبر إخوانك أنني ذاهب للعمرة أو الحج، فإذا أخبرتني بالعمرات السابقة وغبت هذه المرة ولم تخبرني يعني أنك مريض، أما أنت كلما غبت لا تخبر أحد، توقعتك بالعمرة !
إذا عودك أخ أنه مسافر يخبرك بذلك، وصدفت أسبوعين لم يأتي واجب تتفقده، يعني وجود مشكلة عنده، أحياناً يسافر عدة سفرات لاعلم عندك إطلاقاً، فإذا غاب وكان مريض ولم تسأل عنه لست مؤاخذ، فعندما سافر لم يبلغك، ومن عادته يسافر وهذه المرة غاب تظنه مسافر وقد يكون مريض.
أخ قال لي كلمة: ثلاثين يوم مريض بالفراش لم يزرني أحد من إخواننا في الجامع شيء مؤلم تماماً قد يكون خطأ منه، أما إذا إنسان وجوده قوي في المسجد، وإذا سافر وبلغ إخوانه، إذا غاب يفتقده إخوانه، هكذا السنَّة، إن سافرت أنا مسافر، هكذا علمنا النبي، عندما تأتي من السفر الجميع يأتون إليك ليهنئوك، أنت قبل أن تسافر تأتيهم فتبلغهم بعد أن تأتي يأتون فيهنئونك، هذه السنة.
ومن الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا كان أصحابه معه على أمر جامع من خطبة أو جهاد أو رباط لم يذهب أحد منهم مذهباً في حاجته حتى يستأذنه.
وقالوا: كمال التسليم له وللقيام بأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق دون أن يحمله معارض ودون أن يقف عند بعض تفاصيل قوله معترضاً أو رافضاً، حينما تعلم أن هذا الإنسان معصوم عن أن يخطئ في أقواله وأفعاله وإقراره وأحواله وأنه لا ينطق عن الهوى ينبغي أن تنصاع لأمره.
إخواننا الكرام: ديننا عقائد وعبادات ومعاملات وآداب وكأن آداب هذا الدين تاج يتوج به المؤمن، حينما تصح عقيدته وعبادته وتستقيم معاملته يتوج هذا كله بأدب جم رفيع، وكان عليه الصلاة والسلام وافر الأدب، والشيء الظاهر الصارخ الذي يميز المؤمن أدبه مع الله ومع رسوله ومع المؤمنين ومع كل هؤلاء.
في درس قادم إن شاء الله نتابع هذا الموضوع إن قدر الله لنا.والحمد لله رب العالمين
م/ن