بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين 00
التنبيهات في التصحيفات والتحريفات
خطورة التصحيف والتحريف
إنَّ التصحيفَ والتحريفَ لهو أخطرُ ما يعتري النصوص؛ إذ يؤدِّي إلى تغيير وتبديل المعنَى في بعضِ أحواله[1]، أو قد يؤدِّي إلى تعطيلِ المعنى[2] بالكليَّة، فيُوقِع قارئَه في حَيْرة.
كما قدْ حكَى السيوطي - رحمه الله تعالى - قال: "وقدْ قيل: إنَّ النصارى كفَروا بلفظةٍ أخطؤوا في إعجامها وشكْلِها، قال الله في الإنجيل لعيسى: (أنتَ نَبِيِّي وَلَّدتُك مِنَ البَتُول)، فصحَّفُوها وقالوا: (أنت بُنَيِّي وَلَدتُك)"[3].
وقع التصحيف في "نبيي" بتقديمِ الباء الموحَّدة من تحتِها، فصار المعنى مِنَ "البُنوة" لا مِن "النُّبوة".
وكذلك وقَع التحريفُ في كلمة "ولَدْتُك" بتخفيف اللام فصار المعنى كُفريًّا - تعالى -الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
و"أشدُّ التصحيف ما يقَع في الأسماء، ووجَّهَه[4] بعضُهم بأنه شيءٌ لا يَدخُله القياس[5]، ولا قَبْله شيءٌ يدلُّ عليه ولا بعْدَه[6]"[7].
وقدِ انتبَه العلماءُ قديمًا إلى خطورةِ هذا الأمر، فصنَّفوا فيه، حتى إنَّ أهْل الحديثِ جَعَلوا معرفتَه نوعًا مِن علوم الحديث[8].
ثم قدْ أسَّسوا مِن القواعد ما به يُجتَنب الوقوعُ في التصحيف والتحريف، كما يقول الإمامُ ابن الصلاح[9] - رحمه الله تعالى -: "ثم إنَّ على كَتَبة الحديثِ وطلبتِه صَرْفَ الهِمَّة إلى ضبط ما يكتبونه أو يُحصِّلونه بخطِّ الغيْر مِن مرويَّاتهم، على الوجهِ الذي رَوَوْه شكلاً ونقطًا يُؤمَن معهما الالتباسُ"[10].
ويقول أيضًا: "يُكْرَه الخطُّ الدقيق[11] من غير عُذْر يَقْتضيه، رُوِّينا عن حَنبل بن إسحاقَ قال: رآني أحمدُ بن حنبل وأنا أكتُب خطًّا دقيقًا، فقال: لا تَفعَلْ؛ أحوج ما تكون إليه يَخونك[12]"[13].
تعريف التصحيف والتحريف
معنى التصحيف في معاجم اللُّغة:
1- لسان العرب: "المصحِّف والصَّحَفي: الذي يَروي الخطأ عن قِراءة الصُّحُف بأشباهِ الحروف. (مُوَلَّدَة)"[14].
2- القاموس المحيط: "الصَّحَفي مَن يُخطئ في قراءة الصحيفة، وبضَمَّتَيْن لحْن[15]، والتصحيف الخطأ في الصحيفة، وقدْ تَصحَّف عليه"[16].
3- أساس البلاغة: "وهو لَحَّانة مُصحِّف[17]، وصَحَّف الكلمة"[18].
4- المفردات: "والتصحيف قِراءةُ المُصحَف ورِوايته على غيرِ ما هو؛ لاشتباهِ حروفه"[19].
5- المعجم الوسيط: "صحَّف الكلمة: كتَبَها أو قرَأها على غير صِحَّتها؛ لاشتباهِ الحروف.
تصحَّفت الكلمةُ أو الصحيفة: تغيَّرت إلى خَطأ"[20].
فلو نظرْنا في قولهم: "يروي الخطأ"، "مَن يُخطئ" و"على غيرِ صِحَّتها" نجد أنَّ "التصحيف" نوعٌ من "الخطأ"[21].
ولو نظَرْنا في قولهم: "على غيرِ ما هو؛ لاشتباهِ الحروف" و"تغيَّرت" نجد أنَّ "التصحيف" "تغيير" في حروفِ الكلمة.
وقد يكونُ التغييرُ أعمَّ مِن الخطأ، فلا خلافَ بينهما.
فعلى هذا؛ فـ"التصحيف لُغة: التغيير".
فإذا أردْنا التعرُّفَ على معنى "التصحيف" اصطلاحًا، فلا يتمُّ لنا ما أرَدْنا بسُهولة؛ وذلك لأمرين: الأول: لنُدرة التصنيف في موضوعِه، حتى إنَّه ليكاد أن يكونَ كتابُ العسكري[22] "شرح ما يقَع فيه التصحيف والتحريف" هو الوحيد المطبوع في هذا الشأنِ.
الثاني: أنَّ العسكريَّ نفسه لم يضَعْ حدًّا لمعنى التصحيف[23]، وكذلك مَن بَعدَه مِن أهل الحديث أو غيرِهم ممَّن ضمَّنوا بعضَ مصنَّفاتِهم فصلاً عن التصحيف.
فلا نَجِدُ في كلامِهم - رحمهم الله - تعالى - إلا وصْفَ بعض الأخطاء أو التغييرات بأنَّها تصحيف، ووصف البعض الآخَر بأنَّه تحريف، أو وصْف الكلِّ بأنَّه تصحيف، فمثلاً:
1- ابن الصلاح - رحمه الله تعالى -: يَصِف تغيير: "ابن مراجم" إلى: "ابن مزاحم" بأنَّه تصحيف. ويصف تغيير: "خالد بن علقمة" إلى: "مالك بن عُرْفُطَة" بأنَّه تصحيف.
وكذلك يَصِف تغيير: "احتجر" إلى: "احتجم" بأنَّه تصحيف[24].
2- ابن كثير - رحمه الله تعالى -: يَصِف تغيير: "النُّغَير" إلى: "البعير" بأنَّه تصحيف[25].
3- ابن جِنِّي[26]: يَصِف تغيير: "لابِنٌ في الصيف تامِرٌ"[27] إلى: "لا تَنِي بالضيف تامُر" بأنَّه تصحيف[28].
أمَّا إذا نظَرْنا في كتاب "التعريفات" - وهو خاصٌّ بالتعريفات الاصطلاحيَّة - نجده يقول: "التصحيف: أنْ يُقرأَ الشيءُ على خلافِ ما أراد كاتبُه، أو على ما اصطلحوا عليه[29]"[30].
وهذا كلامٌ عامٌّ.
حتى جاء الحافظُ ابن حجر[31] - رحمه الله تعالى - وفَرَقَ بيْن الأمرين فرْقًا واضحًا، فقال: "إنْ كانتِ المخالفة بتغيير حرْف أو حروفٍ مع بقاء صورةِ الخطِّ في السِّياق، فإنْ كان ذلك بالنِّسْبة إلى النُّقَط فالمُصحَّف، وإنْ كان بالنسبة إلى الشَّكْل فالمُحرَّف"[32].
فتغيير "مراجم" إلى "مزاحم" تصحيفٌ؛ لأنَّه تغييرٌ في نَقْط الحروف، وتغيير "احتجر" إلى "احتجم" تحريفٌ؛ لأنَّه تغييرُ حرْف بحرْف.
وعلى هذا؛ فـ"التصحيف اصطلاحًا: تغيير نَقْطِ الحروف".
أمَّا المُحْدَثون فلم يتَّفقوا أيضًا على معنًى واحدٍ للتصحيف؛ فمثلاً:
1- الدكتور الطناحي - رحمه الله تعالى - يقول: "التصحيف: هو تغييرٌ في نَقْطِ الحروف أو حَرَكاتِها، مع بقاءِ صورةِ الخطِّ"؛ فتغيير "العذل" إلى "العدل" تصحيف.
وتغيير "نَمَتْ " إلى "نِمْتُ" تصحيف[33].
2- الدكتور رمضان عبدالتوَّاب - رحمه الله تعالى - يقول: "التصحيف: هو تغييرُ نَقْطِ الحروفِ المتماثِلة في الشَّكْل، كالباء والتَّاء، والثاء والياء"[34].
وهذا التعريفُ ناقصٌ عنِ اختيار الدكتور الطناحي، مع أنَّ الدكتور رمضان رجَع في هذا الفصل مِن كتابه[35] إلى كتاب الدكتور الطناحي.
3- أمَّا الأستاذ عبدالسلام هارون - رحمه الله تعالى - في كتابه "تحقيق النصوص ونشرها" فلم يذكُرْ أو يختار صَراحةً تعريفًا محدَّدًا لكلٍّ من "التصحيف" و"التحريف"، إلا أن يكون اختارَ قولَ الحافظ ابن حجر[36].
ثم إنَّه - رحمه الله تعالى - في كتابه "تحقيقات وتنبيهات في معجم لسان العرب" لم يذكُرْ كلمة "تصحيف" إلا في مُقدِّمة الكتاب، كما كان ذِكْره لكلمة "تحريف" قليلاً؛ بل نادرًا[37].
هذا مع أنَّ موضوع الكتاب "الأخطاء والتصحيفات والتحريفات والأسقاط الواقِعة فيه[38]"[39].
فقد كان - رحمه الله تعالى - يذكُر موطنَ التغيير أو الخطأ، ثم يُتْبِعه بقوله "الصواب: كذا".
إنَّما لو استقرَأْنا المواطنَ القليلة التي وصفَها بأنَّها تحريف يمكن أن نستنبطَ معنى التحريف عندَه، وسيأتي في الكلامِ عن معنى "التحريف".
قلت: هذه أقوالُهم في المعنى الاصطلاحي للتصحيف.
وسأؤخِّر قولي في ذلك في نهايةِ الكلام عن معنى التحريف.