بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فعن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: سألتُ رسول الله ﷺ عن الطاعون فأخبرني أنه: عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحدٍ يقعُ الطاعونُ فيمكث في بلده صابراً محتسباً، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد[1]، رواه البخاري.
سألت عائشة رسول الله ﷺ عن الطاعون، يعني: ما هو؟ ما نظر الشارع لهذا الوباء الذي يكون ضرره فاشياً عاماً في الناس، هل هو عذاب أو أنه رحمة؟ هل هو خير يقع لأهل الإيمان فيصطفي الله منهم من شاء، أو أنه عقوبة تنزل بسبب الذنوب؟
هي سألت رسول الله ﷺ عن هذا الطاعون، والطاعون مرض معروف -أعاذنا الله وإياكم من كل سوء- وهو يعد من الأمراض الوبائية التي تنتشر وتعدي بإذن الله ، ولا يقع في هذا الكون شيء إلا ما أراده الله -تبارك وتعالى، فهو مرض وَرَميٌّ، من الأمراض الورمية، ويظهر غالباً بشكل بثور تحت الإبط، ويميل ذلك إلى السواد، ويكون فيه شيء من التوهج والحرارة، وترتفع معه حرارة الجسم، ويكون معه خفقان في القلب سريع، فهذا هو الطاعون.
وهو نوع خاص من الوباء، إذ إن الوباء هو المرض العام الذي ينتشر كالكوليرا مثلاً أو الجدري، أو غير ذلك من الأمراض التي تنتشر في الناس، فهذه كلها من الأوبئة.
وهذا المرض في الأصل يصيب الفئران، ثم تنقله البراغيث من هذه الفئران إلى فئران أخرى، أو تنقله إلى الآدميين عن طريق الدم، فيكون ذلك بسبب نقل هذا البرغوث بإذن الله -تبارك وتعالى- من هذا الفأر، فإذا أصاب الناس ينتشر بعد ذلك فيهم.
المقصود أنها سألته عن الطاعون، فأخبرها أنه كان عذاباً يبعثه الله تعالى على من يشاء، يعني: من الكفار والعصاة، وهذا يدل دلالة نصية صريحة على أن الله يعذب بالأمراض التي تنتشر في الناس.
ويدل على ذلك الحديث الآخر: وما انتشرت الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا عمتهم الأوجاع والطواعين التي لم تكن في أسلافهم[2]، أو كما قال -صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا رد على أولائك الذين يكتبون في الطوفان المدمر ويردون على من قال: إنه من عذاب الله ، فيقولون: كيف يقال هذا؟ وهذه مصائب ونكبات طبيعية تحصل لجميع الناس، يستوي فيها الخلق -في هذه الكوارث الطبيعية، ونسوا أن الله يمهل ولا يهمل، وأنه يرسل عذابه ورجزه على من شاء من عباده، فهم تَرِمُ آنافهم إذا سمعوا مثل هذا الكلام ويغضبون منه، ويشنعون على قائله.
فالنبي ﷺ أخبر عائشة –رضي الله عنها- أنه كان عذاباً يبعثه الله تعالى على من يشاء، يعني: أن ذلك من عقوبته المعجلة في الدنيا، فجعله الله رحمة للمؤمنين، فإذا وقع ذلك لأهل الإيمان الذين هم أهل الإيمان بمعنى الذين حققوا الإيمان فإن ذلك يكون رحمة لهم، ومعنى ذلك: أن ما يقع من المكاره للناس فإنه بحسب حالهم، فإذا كان الإنسان مطيعاً وعلى حال من الاستقامة فإن ذلك يكون رحمة وابتلاء ابتلاه الله به ليرفعه، وكذلك ما كان متولداً وناشئاً من أثر الطاعة، كالذي يذهب في الحج فيقع فتنكسر رجله، أو يحج ثم يأتي فيصاب بمرض وحمى وإنفلونزا وما أشبه ذلك، فهذا كله رحمة، يؤجر عليها، فكل ما كان متولداً من الطاعة ناشئاً عنها فإنه رحمة، وأما ما كان متولداً عن المعصية فإنه عذاب، كالذي يفجر ويصاب بالإيدز مثلاً، هذا عذاب معجل له في الدنيا قبل الآخرة، وكذلك من أراد معصية وسلك طريقاً ليعصي الله فصدم أو وقع وانكسر أو نحو ذلك فهذا من عقوبة الله المعجلة له في الدنيا، وأما ما لم يظهر فيه الطاعة أو المعصية وإنما وقع فينظر فيه إلى حال العبد، فإن كان الغالب عليه الطاعة فهو رحمة، وإن كان الغالب عليه الانحراف والشر والتكذيب والكفر فهذا من العذاب.
ثم إن الله يرسل العقوبات العامة ثم يبعث الناس بعد ذلك بحسب حالهم، العقوبة إذا نزلت فإنها تأخذ الصالح والطالح، والله قد أخبرنا في كتابه فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ [هود:116] فينجي الله الذين ينهون عن السوء، وأما الذين يشاركون فيه، أو الذين يسكتون عنه فإن العقوبة تأخذهم جميعاً، ثم يبعثون بعد ذلك بحسب حالهم وعلى نياتهم.
قوله: فليس من عبد يقع في الطاعون، أي: أنه يبتلى به ويصاب به، أو يقع في أرض يظهر فيها الطاعون، يقع فيها البلاء والوباء، فيمكث في بلده صابراً محتسباً بهذا الشرط، لأنه يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنه لا يمكن أن يقع شيء إلا بتقدير الله ، فالملك ملكه، والخلق خلقه، ونواصيهم بيده.
قوله: محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد، وقد جاء في الحديث الآخر النهي عن الخروج من الأرض التي يقع فيها الطاعون، وإذا كان الإنسان في خارجها فإنه لا يدخل فيها[3].
وذلك أن الإنسان لا يعرض نفسه للبلاء، فإذا وقع في البلاء فعندئذ عليه أن يصبر، وأن يحتسب، والفرار لن ينفعه، وقد قال الله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243]، حتى قيل: إن هؤلاء هم قوم قد فروا من الطاعون، وهم بالألوف أعداد كثيرة جداً، ولكن الله قال لهم: موتوا، ليروا أنه لا مفر من قدر الله .
والله يقول: قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ [الأحزاب:16]، ويقول الله -تبارك وتعالى: قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، ويقول: أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [النساء:78]، فلا مجال للفرار من الموت، وذلك الفرار لا ينفع، ولكن الإنسان يتخذ الأسباب، فإذا كان في أرض وقع فيها الطاعون فلا يخرج، ولا يمنع ذلك أن يتعالج إن وجد علاجاً، وإذا كان في أرض خارج الطاعون فإنه لا يدخل، من باب طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ، ولئلا يعرض نفسه للبلاء من جهة، وكذلك أيضاً من أجل تعاطي الأسباب.
وتعرفون ما وقع لعمر حينما سار إلى الشام فبلغه وهو في الطريق أن الوباء قد وقع فيها، فجمع أهل بدر فاستشارهم فاختلفوا عليه مِن قائل: نذهب، ومِن قائل: نرجع، ثم جمع أهل بيعة الرضوان -أهل الشجرة- فاختلفوا عليه، ثم جمع من أسلموا في الفتح -من تأخر إسلامهم- فلم يختلف منهم اثنان، كلهم أشار عليه بالرجوع، وبينما هم كذلك إذ جاء عبد الرحمن بن عوف وكان قد ذهب ليقضي حاجته، غاب في حاجته، فلما رأى ذلك أخبرهم بما سمع من رسول الله ﷺ: إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه فقال له أبو عبيدة عامر بن الجراح: أفراراً من قدر الله يا عمر، تفر من قدر الله؟، أبو عبيدة لكمال يقينه وثقته لم يبالِ فقال: أفراراً من قدر الله؟، قال عمر: لو أن غيرك قالها يا أبا عبيدة، يعني: حري بأن تصدر هذه الكلمة من غيرك، لا تصدر منك ومن كان في مقامك، ومثّل له عمر بمثال واضح: لو أنه له غنم أو دواب –بهائم- ووجد مرعيين أحدهما جدب -مجدب- والآخر أرض مخصبة في أيهما ترعى الغنم؟، فقال: في المخصبة، فقال: أفراراً من قدر الله؟[4].
إنك إن رعيتها في الأرض المجدبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيتها في الأرض المخصبة رعيتها بقدر الله، ومن هذا نأخذ فائدة ومسألة علمية مهمة تتعلق بالقدر، وهي: أن التداوي لا ينافي الرضا والإيمان بالقدر، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن موقف المسلم في باب القدر أنه بحسبه، بحسب ذلك الواقع، فما لا يمكن مدافعته فليس هناك سوى الصبر والرضا والتسليم، إذا نزل به الموت فليس أمامه إلا الرضا، إذا مات له قريب أو خسرت تجارته أو غرقت في البحر ليس هناك إلا الرضا، وهناك نوع من القدر يشرع للإنسان مدافعته، مثل لو نزل به المرض فإنه يتداوى تداووا عباد الله[5].
إذا رأى المطر ينهال على زرعه وحرثه فيمكن أن يضع الحواجز ويمنع وصول هذا المطر أو السيل إليه حتى لا تَفسد زروعُه مثلاً، إذا رأى الجرب وقع ببعير من إبله فإنه يعزل هذا البعير، ويداويه، حتى لا ينتشر ذلك الداء والجرب بسائر الإبل، فهذا من باب تعاطي الأسباب، سواء بعد أن وقعت -مما يمكن مدافعته- أو قبل أن تقع كالتطعيم مثلاً، لكي لا يصاب الإنسان بالمرض بإذن الله ، مع أنه إذا وقع له ذلك في قدر الله فلابد أن يحصل.
فالمقصود أن النبي ﷺ أخبر أن من كان صابراً محتسباً -بقي في بلده صابراً محتسباً- أما الذي يبكي ويتضجر فإن ذلك لا يحصل له هذا الأجر.
ولاحظوا أن النبي ﷺ قال: يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد، ولم يقل: فإذا مات أو إذا أصيب بالطاعون كان له مثل أجر الشهيد، فدل ذلك بظاهره -والله أعلم- على أنه يكون له مثل أجر الشهيد وإن لم يحصل له الطاعون، وإن مات بعد مدة على فراشه بمرض آخر، هذا ظاهر الحديث، وهو الذي فهمه بعض الشراح، ومنهم الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى.
فالمقصود أن الإنسان يحتسب ذلك فيحصل له مثل هذا الأجر والثواب، والمقصود بالشهادة هنا هي أنه يحصل له أجر الشهيد بأحكام الآخرة، وليس ذلك بحسب الدنيا، فإن الشهيد في الدنيا كما هو معلوم لا يغسل، ويكفن بثيابه، واختلفوا في الصلاة عليه، أما من أصيب في الطاعون، ومن قال فيه النبي ﷺ: إنه شهيد، كالغريق والحريق ومن مات بالهدم، ونحو ذلك فإنه تجرى عليه أحكام الشهيد في الآخرة، ويبلغ منازل الشهداء، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.