إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ،
من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له
إن الله عز وجل خلقنا و أمرنا بعبادته و الإنابة إليه والافتقار إليه
وجعل القلب هو أساس هذا العمل و مناط قبوله ،
ولأجل ذلك قال نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم لما قال :
{ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص :24] ،
وإنه تعالى قد وصف عبيده فقال :
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [ فاطر :15] ،
فالفقر إلى الله من أخص خصائص العبودية ،
بل هو حقيقة العبودية ولبُّها ، فهو يعني أن لا تكون لنفسك ،
ولا يكون لها منك شيء ؛ بل تكون كلك لله ،
دائم الافتقار إليه في كل حال ، فعلى العبد أن يُجرِّد قلبه
من كل حظوظ الدنيا و أهوائها ،
ويُقبل بكليته إلى ربه متذللاً بين يديه مستسلماً
لأمره ونهيه ،معلقاً قلبه بمحبة ربه وطاعته
{ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ
حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)
لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ
إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى
ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [ الأنعام ].
فلابد للعبد أن يشهد دائماً بفقره إلى الله ،
وحاجته في أن يكون عابداً له ، وأن يطلب منه المعونة ،
فلا حول ولاقوة إلاّ بالله ، ولا ملجأ من الله إلاّ إليه ،
فإن العبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقاراً إليه وخضوعاً له ؛
كان أقرب إليه وأعزّ له، وأعظم لقدره،
فأعظم الخلق أعظمهم عبودية لله .
وقد وجه لمثل هذا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم فقال :
{ أما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل ،
و أما السجود فاجتهدوا في الدعاء } [ رواه مسلم ] ،
و لأجل ذلك كان من دعاء نبينا صلى الله عليه وسلم في ركوعه
{ اللهم لك ركعت ، وبك آمنت ، ولك أسلمت ،
خشع لك سمعي ، وبصري ، ومخي ، وعظمي ، وعصبي }
[ رواه مسلم ] .
فسر حياة القلب هو في خشوعه إلى ربه
الذي متى ما حصل خشع البدن كله ،
لأن القلب ملك الجوارح و سيدها ،
وهذه المنزلة الجليلة من عبودية القلب مرتبة
شمر لها المشمرون و سعا إليها الساعون
يساعدك على نيلها أمران:
الأول :
أن تدرك عظمة هذا الخالق وجبروته ،
فإن العبد كلما كان أعلم بربه وصفاته و أسمائه
كان أعظم حباً له و أشد افتقاراً إليه ، كما قال ربنا :
{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [فاطر :28]
فإن أصل خشوع القلب إنما هو من معرفة الله ،
ومعرفة عظمته ، وجلاله وكماله ،
فمن كان بالله أعرف فهو له أخشع ،
وتحدث لك معرفة الله بالتأمل في كتابه المنظور
وهو هذا الكون البديع الفسيح الذي خلقه الله على أحسن هيئة
و أتقن نظام ، ومن خلال النظر في كتاب الله المسطور
وهو القرآن الكريم الذي فيه وصف الله تبارك و تعالى
و الدلالة عليه و الإشارة إلى عظمته و كماله ،
فمن تدبر هذه الآيات البينات التي فيها ذكر ربنا وصفاته العلى
ذاب قلبه خشوعاً لله وتعظيماً لمقامه
وهيبة لسطوته وجبروته سبحانه وتعالى ،
قال ربنا :
{ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الزمر :67]
و قال عن نفسه :
{ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا
وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ
(59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ
ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ
ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ } [ الأنعام ].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
{ يطوي الله السماوات يوم القيامة ، ثم يأخذهن بيده اليمنى ،
ثم يقول : أنا الملك ؛ أين الجبارون ؟
أين المتكبرون ؟ ثم يطوي الأرض بشماله ،
ثم يقول : أنا الملك ؛ أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ } [ رواه مسلم ]
فمن شهد هذه النعوت و الأوصاف لرب الأرباب
عظمت هيبته في قلبه و عز عليه مخالفة أمره
و اشتد حبه إليه و الشوق إلى لقائه و الأنس و الفرح به
و بطاعته و اتباع شريعته ، و السرور في تطبيق أمره
و البعد عن نهيه ، و صار اللسان رطباً بذكره ،
وفرَّ إليه و توكل عليه واستعان به وحده ،
وافتقر و ذل وخضع وانكسر له ، فمن انكسر قلبه لربه
استحيا منه وخجل من عصيانه ، واعترف بتقصيره وجنايته .
والأمر الثاني الذي يعينك على تحصل خشوع القلب هو
: إدراك ضعفك وعجزك
{ فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)
يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)
يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ } [ الطارق ]
فمن عرف قدر نفسه و أنه مهما بلغ في الجاه و السلطان
و المال فهو عاجز ضعيف لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ،
تصاغرت نفسه وذلَّت جوارحه و عظم افتقاره إلى مولاه
و التجئ إليه و تضرع بين يديه .
فمن كملت عظمة الحق تعالى في قلبه ؛ عظمت عنده مخالفته ؛
لأن مخالفة العظيم ليست كمخالفة من هو دونه ،
ومن عرف قدر نفسه وحقيقتها وفقرها إلى مولاها
في كل لحظة ونَفَس وشدة حاجتها إليه ؛
عظمت عنده جناية مخالفة من يحتاجه في كل حين .
فتلمس قلبك يا عبد الله ، وتحسسه وانظر إن حقق الافتقار
إلى مولاه ، و خشع له وذل إليه ،
فإن للافتقار إلى الله علامات نذكر بعضاً منها
ليعرف كل واحد منا مكانه منها ومكانها منه :
ـــ فمن هذه العلامات خشية الله في السر و العلن ،
كما قال تعالى :
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا
لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [ الأنفال ] ،
فخشية الله في السر و العلن من أعظم آيات الافتقار إلى الله
فمن أدرك عظمة ربه و جبروته ، وسلطانه الذي لا يقهر ،
خاف منه حق الخوف ،
ولهذا قال تعالى :
{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46]
و قال :
{ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)
فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [ النازعات ].
فالذي يخاف ربه بالغيب صادق في تعظيم ربه ،
فلم يترك ما يغضب الله إلا لأجل الله ، لا لأجل الناس و كلامهم ،
بل تعظيماً لحق الله و إكباراً لعظيم جنابه ،
فلم يتعلق قلبه إلا بربه ولم يلتفت إلى ما سواه ،
لا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم
{ لأعلمن أقواما يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضا فيجعلها الله هباء منثورا}
فقال ثوبان : يا رسول الله ! صفهم لنا جلهم لنا ؛
أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
{ أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم أقوام إذا خلو بمحارم الله انتهكوها}
[ سلسلة الأحاديث الصحيحة ] و العياذ بالله .
ـــ و العلامة الثانية من علامات خشوع القلب إلى الله عز وجل
هي في تعظيم أمره ونهيه ، فمن العبودية التسليم
و الانقياد محبة وتذللاً إلى الله ،
فتعظيم أوامر الله ونواهيه من تعظيم الله جل وعلا كما
قال تعالى :
{ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ }
[ الحج :32]
وكما قال :
{ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}
[ الحج : 30 ]
فما انتشرت المعاصي بين أبناء المسلمين و كثرت الأهواء
و المنكرات إلا بسبب ضعف الإيمان في قلوب الناس
و التهاون في تعظيم أمر الله عز وجل .
فمن وقف عند حدود النصوص الشرعية ،
والتزم صادقاً بأوامر النبي صلى الله عليه وسلم
و كفَّ مخلصاً عن نواهيه و زواجره فلقد صدق في خشوع قلبه ،
فإن تعظيم الأمر والنهي ناشئ عن تعظيم الآمر و الناهي ،
وعلامة تعظيم هذه الأوامر القيام بها كما أمر شارعها
على أحسن هيئة و أكمل صورة والفرح بالقيام بها والتحسر
على فواتها و فقدها ، و الخوف والوجل من الوقوع في نواهي
الله عز وجل ومحرماته و الحزن عند الوقوع بها
و المسارعة إلى التوبة منها و التخلص من آثارها
فكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.
يتـــــــــــــــــــــــــبع