ثم الواجبُ معرفتهُ وجوبًا عينيًّا على كلّ مكلفٍ من صفاتِ الله هي هذه الثلاثَ عشرةَ، وأما التكوينُ وهو التخليقُ للمخلوقاتِ والمقدوراتِ ففهِمَهُ بعضُ أهلِ السنةِ على أنه صفةٌ لله أزليةٌ قائمةٌ بذاتِهِ تعالى فعندهُم تكوينُ الله أزليٌّ والمكوناتُ حادثةٌ مخلوقةٌ. والفريقُ الآخرُ أكثرُ الاشاعرةِ لا يرونَ التكوينَ صفةً لله تعالى أزليةً، إنما يرونَ التكوينَ أثرَ القدرةِ الأزليةِ فعندَهُم لا حاجةَ إلى عدّ التكوينِ صفةً أزليةً، فعلى حسبِ مذهبِ الماتريديةِ تكونُ الصفاتُ الواجبُ معرفتُها على كلّ مكلفٍ أربعَ عشرةَ صفةً، وبعضُ الماتريديةِ وهو صاحب كتاب بدء الأمالي قال في تقريرِ مذهبِهِم في صفاتِ الذاتِ:
صفاتُ الذاتِ والأفعالِ طُرًّا قديماتٌ مصوناتُ الزوالِ
الماتريديةُ عندَهُم هكذا يقررونَ أن صفات الذاتِ وهي ثلاثَ عشرةَ، وصفاتُ الأفعالِ أي التخليق الذي هو التكوين والإسعادُ والإشقاءُ والإماتَةُ والإحياءُ قديماتٌ أي أزلياتٌ، وقوله: "مصونات الزوالِ" معناه لا تَنعدمُ ليست شيئًا يوجدُ ثم ينقطعُ.
وأما بعضُ الحنابلةِ قالوا كلامُ الله بصوتٍ لكنَّ متقدميهِم يعنونَ بذلكَ صوتًا أزليًّا أبديًّا ليس كأصواتِ المخلوقينَ فإن الذي يعتقدُ أن كلامَ الله صوتٌ حادثٌ فهو شَبَّهَهُ بخلقهِ وخالف قولَ الله تعالى: {ليس كمثله شىء}.
ثم إن الناسَ افترقوا في مسألةِ الصفاتِ فِرقًا، فرقة أثبتتِ الصفاتِ معَ التنزيهِ عن مشابهةِ الخلقِ وهم أهلُ السنةِ والجماعةِ، أثبتوا لله ما أثبتَ لنفسِهِ مع تنزيهِهِ تعالى عن أن تكونَ صفاتُهُ من لوازِمِ الجسميةِ كالجلوسِ والانتقالِ والتحيزِ في جهةٍ من الجهاتِ والتغيرِ والتطورِ وسائرِ أماراتِ الحدوثِ، وفرقة عطلتِ الصفاتِ وهم المعتزلةُ وهمُ القدريةُ أنكروا أن الله متصفٌ بصفاتٍ تقومُ بالذاتِ فسمُّوا لذلكَ معطلةً لأنهم عطلوا الصفات أي نفوها، وفرقة جعلوا صفاتِ الله من لوازمِ الجسميةِ أثبتوا للذاتِ المقدسِ الحركةَ والسكونَ والتنقلَ وغيرَ ذلك من أماراتِ الحدوثِ كقولِهِم إن كلامَ الله أصواتٌ وحروفٌ توجدُ ثم تنقضي ثم تعودُ ثم تنقضِي ثم تعودُ ثم تنقضِي وهؤلاءِ يسمَّونَ مشبهةً ومجسمةً، ومن هؤلاءِ قسمٌ يصرحونَ بتسميةِ الله جسمًا ثم يقولونَ نحن لا نعني بقولنا إنه جسمٌ أَنه جِرمٌ إنما نعني أنه موجودٌ قائمٌ، وقسمٌ يتحاشونَ أن يطلقوا عليه لفظَ الجسمِ مع اعتقادِ معناه، ومن هؤلاء الكراميَّةُ وهم مشبهةٌ مجسمةٌ ينتسبونَ إلى رجلٍ يقال له محمد بن كرام ويقالُ لهؤلاءِ حشويةٌ، وأهلُ السنةِ الوسطُ بين ذينِكَ الفريقينِ وهم لقّبوا الأشعريةَ والماتريديةَ لأنهم اتَّبَعُوا إمامي الهدى أبا الحسن الأشعري وأبا منصورٍ الماتريديَّ ويتميزُ هؤلاءِ عن المعطلةِ والمشبهةِ لكونِهِم يثبتونَ لله تعالى الصفاتِ التي مرَّ ذكرُها : العلمُ والقدرةُ والإرادةُ والسمعُ والبصرُ والكلامُ والحياةُ والمخالفةُ للحوادثِ والقيامُ بالنفسِ والوجودُ والوحدانيةُ والقدم والبقاء مع تنزيهِ الله تعالى عن صفاتِ الحدوثِ بقولِهِم في هذه الصفاتِ إنها أزليةٌ أبديةٌ، ولأنهم يؤولونَ ءاياتِ الصفاتِ وأحاديث الصفاتِ من المتشابِه بتركِ حملِها على الظواهِر، فمنهم من يؤولُ تأويلا إجماليًّا ومنهم مَن يؤولُ تأويلا تفصيليًّا ويَرونَ كلا الأمرينِ حقًّا وصوابًا. ومثالُ ذلكَ أنهم يحملونَ استواءَ الله على العرشِ المذكورَ في عدةِ ءاياتٍ على معنى يليقُ بهِ تعالى لا على معنَى الجلوسِ والاستقرارِ أو المحاذاةِ أو نحوِ ذلكَ من معاني الاستواءِ في اللغةِ العربيةِ مما هو من استواء المخلوقِ، ثم منهم من يكتفِي بإمرارِها كما جاءت من غير تعيينِ معنى لائق بالله تعالى كالاستيلاءِ والقهرِ، ومنهم من يعينُ معنى لا يلزمُ منهُ علاماتُ الحدوثِ ولوازمُ الجسميةِ فالفريقُ الأولُ منهُم أَوَّلوا تأويلا إجماليًّا والفريقُ الآخرُ أَوَّلوا تأويلا تفصيليًّا.
وزاغَ أهلُ التشبيهِ عن الحقّ وقالوا إن التأويلَ تعطيلٌ وهو افتراءٌ على أهلِ السنّةِ، وهؤلاءِ يذمون أهلَ الحقّ لتركهم حملَ تلكَ الآياتِ والأحاديثِ المتشابهةِ كآيةِ الاستواءِ المذكورةِ على ظواهرِها، فيقول أحدهم للسني الذي لا يحمل تلك الآيات والأحاديث على ظواهرها هذا مؤوّل على وجهِ التعيير وهم معَ ذلك يؤولونَ بعضَ هذه الآياتِ والأحاديثِ، فهم في الحقيقةِ مناقضونَ لأنفسِهِم وإن لم يشعرُوا بذلكَ لأنهم لا يحملونَ الآياتِ التي ظواهرها أن الله في الجهةِ المقابلةِ لجهةِ العلوّ كالأرضِ فإذا جاءوا إلى هذِه الآياتِ كقولِهِ تعالى في حقّ ابراهيمَ: {وقال إني ذاهبٌ إلى ربي سيهدين} لا يحملونَ هذه الآيةَ على أن الله تعالى أرادَ بذلكَ أنه كانَ في أرضِ الشامِ التي هاجرَ إليها إبراهيمُ، كذلك إذا جاءوا إلى قولِهِ تعالى: {وهو معكم أين ما كنتم} لا يحملونَ هذهِ الآيةَ على ظاهرها لأنَّ ظاهرها أن الله مخَالطٌ عبادَهُ في أماكِنهم في الأرضِ أينما كانوا وأنه متنقلٌ معهم. ثمَّ إذا قيلَ لَهُم كيفَ تحملونَ بعضَ هذِهِ الآياتِ على ظواهرِها كآيةِ الاستواءِ على العرشِ ولا تحملونَ الآياتِ الأخرى كآيةِ {وقال إني ذاهبٌ إلى ربي سيهدين} وءاية {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}وما أشبهَ ذلك لا تحملونَها على الظواهرِ أليس هذا تَحَكُّمًا، قالوا الآياتُ التي ظواهرُها أن الله تعالى في جهةِ العلوّ كالعرشِ والسماءِ إذا حملناها على ظواهرِها أثبتنا لله الكمالَ وأما الآياتُ التي ظواهرُها أنه تعالى في جهةِ تحت لا نحملُها على ظواهرها لأن جهةَ تحتٍ خلافُ الكمالِ وهي نقيصةٌ في حقّ الله تعالى.
وقالَ أهلُ الحقّ: ليس الشأنُ في عُلوّ الجهةِ بل الشأنُ في علوّ القدرِ، والفوقية في لغةِ العربِ تأتي على معنيينِ فوقية المكانِ والجهةِ وفوقية القدرِ قال الله تعالى إخبارًا عن فرعون:{وإنا فوقهم قاهرون} أي نحنُ فوقَهُم بالقوةِ والسيطرةِ لأنه لا يصحُّ أن يقالَ إن فرعونَ أرادَ بهذا أنه فوقَ رقابِ بني إسرائيلَ إلى جهةِ العلوّ إنما أرادَ أنهُم مقهورونَ لَهُ مغلوبونَ.
والحاصلُ أن هذه الطائفةَ كأنها لا تدري ما تقولُ، أما أهلُ الحقّ الذين لا يحملونَ تلك الآياتِ على الظواهرِ ما أوهمَ منها تحيزَ الله في جهةِ العلوّ وما أوهَمَ منها تحيزَهُ في جهةِ تحت فهم جانبوا التحكمَ أي الدعوى بلا دليلٍ، وأما الفئة التي تحملُ بعضَ تلك الآياتِ والأحاديثِ على ظواهرِها وتترك حملَ بعضٍ على ظاهرها فقد تحكمت ولزمَها التشبيهُ فهم مشبهةٌ في الحقيقةِ وإن كانوا لا يرضونَ هذا الاسمَ لهُم. ومن عادتِهِم أنهم يموهونَ على الناسِ بقولِهِم استوى على العرشِ بلا كيف أو بقولِهم على ما يليق بهِ وهم يعتقدونَ في الله الكيفَ الذي نفاه السلَف فليحذرِ العَاقل تمويهَهُم، تعالى الله عما يقولون.
صِفَاتُ الله كُلُّها كَمَالٌ
صِفَاتُ الله أزَلِيَةٌ أَبدِيَةٌ، لأَنَّ الذَّاتَ أزَليٌّ فَلا تَحْصُلُ لَهُ صِفَةٌ لَم تَكُنْ في الأَزَلِ، أمَّا صِفَاتُ الخَلْقِ فَهِيَ حَادِثَةٌ تَقْبَلُ التَّطَوُّرَ مِنْ كَمَالٍ إلى أكْمَلَ فَلا يتجدَّدُ عَلى عِلْمِ الله تَعَالَى شَىءٌ. والله تَعَالَى خَلَقَ كُلَّ شَىءٍ بِعلْمِه الأَزَليّ وقُدْرَتِه الأَزَلِيَّةِ ومَشِيْئَتِه الأَزَلِيَّةِ، فَالمَاضِي والحَاضِرُ والمُسْتَقْبَلُ بِالنّسْبَةِ لله أَحَاطَ بِه بِعِلْمِهِ الأَزَلِيّ. ولما ثَبَتَت الأزليَّةُ لذاتِ الله وَجَبَ أن تكون صفاتُهُ كلُّها أزليَّةً أبديَّةً لا تَقبَلُ التَّغيُّرُ والتَّطوُّرُ لأن التّغيُّرَ والتَّطوُّرَ من حالٍ إلى حالٍ علامةُ الحدوثِ، فالإنسان يقبل الزّيادةَ والنُّقصانَ والتغيُّرَ من الكمالِ إلى النَّقصِ والعكس أما الله تعالى لا يزدَادُ ولا ينقصُ، فصفاتُ الله لا تقبلُ التّطوُّرَ من كمالٍ إلى أكملَ وعلمُ الله لا يزدادُ ولا ينقصُ بل علمُهُ كاملٌ كما سائر صفاته يعلمُ به كلَّ شَىءٍ، فلا يتجدّدُ له علمٌ جديدٌ بل هو عالمٌ في الأزلِ بكلّ شىءٍ فالتّغيُّرُ يحصُلُ في المعلومِ الحادِثِ لا في علمِ الله الأزليّ، فالله يعلمُ ما كانَ في الماضي وما يكون في الوقتِ الحاضرِ وما سيكون في المستقبلِ حتى الأشياء التي تتجدَّدُ في الآخرةِ الله عَلِمَ بها في الأزل، حتى أنفاسَ أهل الجنةِ وأهل النار التي تتجدَّدُ بلا انقطاعٍ الله تعالى يعلمُ بتفصيلها.
أما قولُه تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه} [سورة الأعراف] معناهُ أن الله تعالى له الأسماءُ التي تدلُّ على الكمالِ، فالله لا يُوصَفُ إلا بصفةِ كمالٍ فما كانَ من الأسماءِ لا يدلُّ على الكمالِ لا يجوزُ أن يكونَ اسمهُ كما يُسمّيه بعضُ النّاس "روحًا"، وبعضُهم سمّاهُ "ءاه"، فهذا لا يجوزُ لأن كلمةٌ ءاه وَضَعَهَا العربُ لِتَدُلَّ على الشّكايةِ والتّوجُّعِ وقد جاءَ في الحديثِ الذي رواه الترمذي أن رسول الله قال: "إذا تثاءبَ أحدُكم فَليَضَع يدهُ على فِيْهِ، وإذا قالَ ءاه ءاه فإنَّ الشّيطانَ يضحَكُ من جوفِهِ" أي يدخل إلى فمِهِ ويسخرُ منه.
ومن الدّليلِ على أن ءاه ليس من أسماءِ الله أن الفقهاءَ قالوا إن من قالَ ءاه في الصّلاةِ عامدًا بطلَتْ صلاتُهُ، ومعلومٌ أن ذِكرَ الله لا يبطلُ الصلاةَ، فلو كانَ ءاه من أسماءِ الله لما أبطَلَ الصلاةَ.
وأسماءُ الله الحسنى يُطلَقُ عليها صفات الله ويُطلقُ عليها أسماء الله إلا لفظ الجلالةِ لا يطلقُ عليه الصّفة، ثم إن أسماء الله تعالى قسمانِ قسم لا يُسمَّى به غيرُهُ وقسمٌ يُسمَّى به غيرُه، الله والرَّحمنُ والقدُّوسُ والخالقُ والرَّزَّاقُ ومالكُ الملكِ وذو الجلالِ والإكرامِ والمحيي المميت لا يُسمَّى به إلا الله، أما أكثرُ الأسماءِ فيُسمَّى به غيرُ الله أيضًا، فيجوزُ أن يسمّيَ الشَّخصُ ابنَهُ رحيمًا والمَلِك كذلك والسَّلام كذلك.
تم إملاءٍ في غرة رجب لعام ألف وأربعمائة وعشرة للهجرة في مدينة خير الخلق محمد صلى الله عليه وسلم والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على خير خلقه.