![]() |
آداب الخلاف..
ولاً: أن تسمع الحجة والرأي، كما سبق معنا في قصة الرسول صلى الله عليه وسلم مع الوليد بن المغيرة . فقبل أن تصدر أحكامك على المخالف، واجب عليك: أن تحاوره وتسمع رأيه وحجته. ثانياً: إيراد الدليل: لأن التهويل والكلام لوحده لا يكفي ولا يجدي. قال تعالى: ((قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا))، ويقول: ((قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)). وعند ابن عدي وبعض الحفاظ أنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى الشمس وقال لرجل: (على مثلها فاشهد أو دع) (1) ، ويشهد له قوله تعالى: ((إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)). فلا بد أن يكون عندك دليل، ووثائق، وبراهين تدمغ بها خصمك وتُظهر حجتك ورأيك. ثالثاً: الهدوء في الرد، بأن لا تصل المسألة إلى رفع الصوت؛ لأنه لا يكون إلا في الخطب والمواعظ التي تستلزم ذلك. قال تعالى: ((وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)). وصاحب الباطل دائماً يرفع صوته، حتى يُظهر للناس أنه محق. وصاحب الحق متزن يوصل كلمته في تمكن وفي اطمئنان؛ لأنه واثق من نفسه. رابعاً: ذكر جوانب الاتفاق قبل الاختلاف، فإذا أتيت مثلاً إلى كافر مشرك، وثني، تريد أن تجادله في ألوهية الله عزّ وجل، فابدأ معه أولاً فيما تتفق أنت وإياه فيه، وهو وجود الله مثلاً وآياته ومخلوقاته. قال تعالى: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)). فإذا جلس معك تقول له: من خلق السماوات والأرض؟ فيقول: الله. فتقول: أنا وإياك متفقين أن الله خلق السماوات والأرض. فتتدرج معه، ثم تقول: فمن يستحق العبادة بعد ذلك؟ حينها يقف، وربما يجيبك بأحد جوابين: إما أن يقول: يستحقها الله، فالحمد لله. أو يقول: يستحقها الوثن -وهو أنواع-. فتقول: الوثن لا يسمع ولا يبصر ولا يرى ولا يرزق ولا يخلق فكيف يستحق العبادة؟ حينها سوف يجيبك بالحق. قال تعالى: ((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ))، أي لنلتق على كلمة نتفق عليها. وسمعت أحد القوميين العلمانيين يقرأ هذه الآية أمام بعض اليهود و النصارى ، فقال: قال الله: ((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ))، ثم وقف، ولم يكمل، وقف حمار الشيخ في العقبة! لأن المسألة التي تلي هذه هي المدمرة وهي: ((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)). فبعض الناس يأخذ الحجة التي له، ويترك الحجة التي عليه. يقول علماء الحديث: أهل السنة يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل البدعة لا يكتبون إلا ما لهم. خامساً: التواضع في الرد، قال تعالى: ((وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)). فتظهر نفسك في البداية: أنك لست جازماً بالحق؛ لتستدرج المخالف فتقول: أنا رأيي -وقد يكون رأيي خطأً- أن الموضوع كذا وكذا، فإنه حينئذٍ سيستأنس المخاطب، ويدلي بحجته، ويتأمل حجتك! لعلها أن تكون صائبة، فإذا هي صائبة. يقول أهل الإيمان في القرآن للكفار: ((وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ))، ومعلوم: أن أهل الإيمان هم الذين على هدى، وأهل الكفر هم الذين على ضلال مبين؛ ولكنه سحب المخالف للتأمل في الأدلة لما يرى من تواضع خصمه. سادساً: تحديد محل الخلاف، فبعض الناس يهيج ويغضب على غير مبدأ، وعلى غير نقطة خلاف. فهو لا يعلم لماذا اختلف مع زميله! يقول أهل الأحوال: لا بد من تحديد نقطة الخلاف حتى تتكلم أنت وإياه على شيء محدد، فيضبط كل واحد كلماته ويختارها بعناية. وهذا هو منهج القرآن، الذي يحدد مثلاً الخلاف مع الكفار في اليوم الآخر، ثم يبدأ يحاورهم فيه. سابعاً: التحاكم إلى صاحب أهلية في الحكم: فأنت إذا اجتمعت واختلفت أنت وزملاء لك، فالأحسن أن تقول نُحَكّم فلاناً العالم الداعية بيننا. وقد حدث مثل هذا في السيرة. فـ [قد اختلف ابن عباس رضي الله عنهما وبعض الناس في: هل كان صلى الله عليه وسلم يغتسل وهو محرم؟ فقالوا: نحتكم إلى أبي أيوب الأنصاري صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم. فاحتكموا إليه، فاغتسل، وقال: رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم يغتسل، وهو محرم، فرضوا بحكمه. فقال المسور بن مخرمة -فيما أظن- لـابن عباس : والله لا أخالفك بعدها أبداً] (1) . و [اختلف ابن عمر مع سعد بن أبي وقاص في المسح على الخفين. فسأل ابن عمر أباه فقال له: إذا قال لك أبو إسحاق -أي: سعد - قولاً فاعلم أنه صادق] (1) . فلك أن تختار شخصاً من الأساتذة أو العلماء أو الدعاة فتحكمهم في المسألة المختلف فيها، ثم تسمع أنت وإياه للحكم. ثامناً: الرد إلى الله ورسوله في مسائل الشريعة، قال تعالى: ((فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)). والرد إلى الله يكون بالرد إلى كتابه. والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يكون بالرد إلى سنته المطهرة. فإذا اختلفت أنت ورجل في قضية ما، فقل له: نحتكم إلى الكتاب والسنة وإلى أهل العلم الذين يبينون الكتاب والسنة. وحينها تسمعون الحكم الصريح من الكتاب والسنة؛ لأن الله يقول: ((مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ))، ويقول سبحانه وتعالى: ((فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ))، ويقول سبحانه وتعالى: ((وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)). تاسعاً: تجنب النيل من الشخص والتشفي من عرضه. كان ابن قدامة صاحب المغني : إذا أراد أن يناظر أحداً تبسم في وجهه. فيقول أحد العلماء: هذا والله يقتل الناس بتبسمه. يقول المتنبي : وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا والمعنى: أن التبسم، والأريحية، والهدوء يقتل الخصم؛ لأن الخصم يريد منك أن تتفاعل وأن تتأثر، وأن تحترق بداخلك فإذا أظهرت له أنك لا تتأثر وأنك هادئ احترقت أعصابه. عاشراً: أن تحدد نوع الاختلاف، هل هو خلاف تضاد، أم خلاف تنوع؟ لأن خلاف التضاد، لا يُعذر صاحبه عند أهل السنة . مثل من ينكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، كرجل يقول: أركان الإسلام أربعة. فتقول: هي خمسة. فيقول: لا بل أربعة. فهذا ليس بخلاف عند أهل السنة ، بل هو ردة وكفر. وأما خلاف التنوع ومسائله. فهي المسائل التي فيها سعة، كالمسائل الفقهية التي يكثر فيها الخلاف في كل آن وحين. كالإشارة بالأصبع في التشهد، أو وضع اليد في الصلاة أو صلاة التراويح.. أو غيرها مما كثر فيه الخلاف وطال. والحل فيها ما قاله صلى الله عليه وسلم: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) (1) . فلذلك تدعو للناس في هذه الحالة بالأجر، وتلتمس لهم العذر، ولا يجوز للمخالف في مسائل الفرعيات أن يعنف على من خالفه. وقد أطال شيخ الإسلام في رسالته: رفع الملام عن الأئمة الأعلام ، في ذكر أعذار العلماء في خلافاتهم مع بعضهم البعض، ودافع عنهم دفاعاً حاراً. فارجع إليها فإنها نفيسة. الحادي عشر: الإنصاف مع المخالف، ولو كان عدواً لك، قال تعالى: ((وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)). ولذلك تجد من لا يقيم هذا المبدأ في حياته، يغضب منك، إذا ذكرت صفة حسنة في عدو لك وله. كأن تذكر تفوق الدول الغربية في مسائل العلم المادي، أو في سهولة إنجاز المعاملات .. أو نحوها من الأمور الدنيوية. وهذا ليس به بأس؛ لأنه من ذكر مزايا الشعوب الدنيوية التي تفوقوا فيها، ولا دخل له من قريب، أو من بعيد بالولاء والبراء، كما يزعم بعض الناس؛ لأننا نعلم أن أشد الناس لنا عداوة هو من عادانا بسبب الدين. كل العداوات قد تُرجى إماتتها إلا عداوة من عاداك في الدين ولذلك [قال عمرو بن العاص رضي الله عنه، في الروم: إن فيهم خصالاً أربعاً: 1- إنهم لأحلم الناس عند فتنة. 2- وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة. 3- وأوشكهم كَرّة بعد فَرّة. 4- وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف. 5- وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك] (1) . وأما مسألة أهل البدع وذكر محاسنهم، فإنها مسألة أخرى غير هذه، وهي مما طال فيه الجدل بين الدعاة والشباب في هذا الزمان. والصواب فيها -إن شاء الله- أن أهل البدع ليسوا على شاكلة واحدة. فمنهم الذي اجتهد عن حسن نية في اختياراته وترجيحاته، ويظن أنه على منهج أهل السنة ؛ ولكنه ضل الطريق لحكمة إلهية. فهذا نعذره ونبين خطأه مع ذكر محاسنه كالحافظ ابن حجر ، والنووي و القاضي عياض .. ونحوهم. وآخرون استمرءوا البدع ونابذوا أهل السنة عن علم، وعن بغي وعدوان. فهؤلاء لا نذكر محاسنهم أبداً؛ لأن في ذلك تلبيس على المسلمين، بل نُحَذّر منهم ونفضحهم. وهذا كحال الجعد بن درهم و الجهم بن صفوان و العلاّف ، والنظام .. وغيرهم من دعاة البدعة، ورءوسها، قديماً ومن سار على دربهم حديثاً. أما من يستخدم هذا المنهج الأخير مع دعاة الإسلام، وأهل الفضل، فهو خاطئ وظالم لنفسه. أقلوا عليهم من اللوم لا أباً لأبيكمو أو سدوا المكان الذي سدوا ويقول بشار بن برد : ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه وقال أبو تمام : تريد مبرأ لا عيب فيه وهل عود يفوح بلا دخان ويقول النابغة الذبياني أمام النعمان بن المنذر : ولست بمستبق أخاً لا تَلُمّه على شعثٍ أي الرجال المهذب أسأل الله لي ولكم أن يجنبنا الخلاف والزلل، وأن يوفقنا للاعتصام بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. |
رد: آداب الخلاف..
|
رد: آداب الخلاف..
اقتباس:
شكرا لحضورك الرائع .. |
رد: آداب الخلاف..
|
رد: آداب الخلاف..
اقتباس:
شكرا لك على المرور العطر .. |
الساعة الآن 03:21 AM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. Designed & TranZ By faceextra